زعموا أن محمداً - صلى الله عليه وسلم ليس برسول - . وبنوا هذا الزعم على أربع شعب هى :
1- إن العهد والنبوة والكتاب محصورة فى نسل إسحق لا إسماعيل . ؟ !
2- إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يأت بمعجزات . ؟ !
3- إن القرآن من نوادر الأعمال الإنسانية ، فليس هو معجزاً (1) . ؟ !
4- إن الكتب السابقة - التوراة وملحقاتها والأناجيل - خلت من البشارة برسول الإسلام . ؟
الرد على الشبهة :
أولاً : البشارات فى التوراة :
تعددت البشارات برسول الإسلام
فى التوراة وملحقاتها ، ولكن اليهود أزالوا عنها كل معنى صريح ، وصيروها
نصوصاً احتمالية تسمح لهم بصرفها عنه - صلى الله عليه وسلم - ومع هذا فقد
بقيت بعد تعديلها وتحريفها قوية الدلالة على معناها " الأصلى " من حملها
على رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - لأن حملها على غيره متعذر أو
متعسر أو محال .
فهى أشبه ما تكون برسالة مغلقة مُحى " عنوانها "
ولكن صاحب الرسالة قادر - بعد فضها - أن يثبت اختصاصها به ، لأن الكلام "
الداخلى " الذى فيها يقطع بأنها " له " دون سواه ؛ لما فيها من " قرائن "
وبينات واضحة ونعرض - فيما يلى - بعضاً منها : - 1 -
" وهذه هى البركة التى بارك بها موسى رجل الله بنى إسرائيل قبل موته " .
فقال :
" جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من ساعير ، وتلألأ من جبل فاران " (2) . فى هذا النص إشارة إلى ثلاث نبوات :
الأولى : نبوة موسى عليه السلام التى تلقاها على جبل سيناء .
الثانية : نبوة عيسى عليه السلام وساعير هى قرية مجاورة لبيت المقدس ، حيث تلقى عيسى عليه السلام أمر رسالته .
الثالثة
: نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وجبل فاران هو المكان الذى تلقى فيه -
عليه الصلاة والسلام - أول ما نزل عليه من الوحى وفاران هى مكة المكرمة
مولد ومنشأ ومبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - . وهذه العبارة - مرة أخرى
- تضمنت خبراً وبشارتين : فالخبر هو تذكير موسى بفضل الله عليه حيث أرسله
إليهم رسولاً . والبشارتان :
الأولى : خاصة بعيسى عليه السلام . والثانية خاصة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
وموقف اليهود منهما النفى : فلا الأولى بشارة بعيسى ابن مريم ولا الثانية بشارة برسول الإسلام .
أما
موقف النصارى فإن النفى - عندهم - خاص ببشارة رسول الإسلام . ولهم فى ذلك
مغالطات عجيبة ، حيث قالوا إن " فاران " هى " إيلات " وليست مكة . وأجمع
على هذا " الباطل " واضعو كتاب : قاموس الكتاب المقدس . وهدفهم منه واضح
إذ لو سَلَّمُوا بأن " فاران " هى مكة المكرمة ، للزمهم إما التصديق
برسالة رسول الإسلام ، وهذا عندهم قطع الرقاب أسهل عليهم من الإذعان له .
. ؟ ! ، أو يلزمهم مخالفة كتابهم المقدس ، ولم يقتصر ورود ذكر " فاران "
على هذا الموضع من كتب العهد القديم ، فقد ورد فى قصة إسماعيل عليه السلام
مع أمه هاجر حيث تقول التوراة : إن إبراهيم عليه السلام استجاب لسارة بعد
ولادة هاجر ابنها إسماعيل وطردها هى وابنها فنزلت وسكنت فى " برية فاران "
(3) . على أنه يلزم من دعوى واضعى قاموس الكتاب المقدس من تفسيرهم فاران
بإيلات أن الكذب باعترافهم وارد فى التوراة . لأنه لم يبعث نبى من "
إيلات " حتى تكون البشارة صادقة . ومستحيل أن يكون هو عيسى عليه السلام ؛
لأن العبارة تتحدث عن بدء الرسالات وعيسى تلقى الإنجيل بساعير وليس بإيلات
.
فليست " فاران " إلا " مكة المكرمة " وباعتراف الكثير منهم ، وجبل
فاران هو جبل " النور " الذى به غار حراء ، الذى تلقى فيه رسول الإسلام -
صلى الله عليه وسلم - بدء الوحى . وهجرة إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة
المكرمة " فاران " أشهر من الشمس .
وترتيب الأحداث الثلاثة فى العبارة المذكورة :
جاء
من سيناء وأشرق من ساعير وتلألأ من فاران . هذا الترتيب الزمنى دليل ثالث
على أن " تلألأ من جبل فاران " تبشير قطعى برسول الإسلام - صلى الله عليه
وسلم - . وفى بعض " النسخ " كانت العبارة : " واستعلن من جبل فاران " بدل
" تلألأ " .
وأيًا كان اللفظ فإن " تلألأ " و " استعلن " أقوى دلالة
من " جاء " و " أشرق " وقوة الدلالة هنا ترجع إلى " المدلولات " الثلاثة
. فالإشراق جزء من مفهوم " المجىء " وهكذا كانت رسالة عيسى بالنسبة
لرسالة موسى ( عليهما السلام ) .
أما تلألأ واستعلن فهذا هو واقع الإسلام ، رسولا ورسالة وأمة ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
هذه
المغالطة ( فاران هى إيلات ) لها مثيل حيث تزعم التوراة أن هاجرأم إسماعيل
عندما أجهدها العطش هى وابنها إسماعيل بعد أن طردا من وجه " سارة " طلبت
الماء فلم تجده إلا بعد أن لقيا ملاك " الرب " فى المكان المعروف الآن "
ببئر سبع " ؟ ! وأنها سميت بذلك لذلك . . ؟ ! وكما كذبت فاران دعوى "
إيلات " كذَّبت " زمزم الطهور " دعوى " بئر سبع " ؟
وستظل فاران - مكة المكرمة - وزمزم الطهور " عملاقين " تتحطم على صخورهما كل مزاعم الحقد والهوى .
- 2 -
ويجىء نص آخر فى التوراة لا محمل له إلا البشارة برسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم- مهما غالط المغالطون . وهو قول الله لموسى
حسب ما تروى التوراة : " أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامى فى فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الإنسان
الذى لا يسمع لكلامى الذى يتكلم به باسمى أنا أطالبه " (4) .
حدث
هذا حسب روايات التوراة وعداً من الله لموسى فى آخر عهده بالرسالة ، وكان
يهمه أمر بنى إسرائيل من بعده ، فأعلمه الله - حسب هذه الرواية التوراتية
- أنه سيبعث فيهم رسولا مثل موسى - عليه السلام - .
ولقوة دلالة النص
على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد وقف أهل الكتابين - اليهود
والنصارى - موقفين مختلفين هدفهما واحد ، وهو أن النص ليس بشارة برسول
الإسلام .
أما اليهود فلهم فيه رأيان :
الأول : أن العبارة نفسها
ليست خبراً بل هى نفى ، ويقدرون قبل الفعل " أقيم " همزة استفهام يكون
الاستفهام معها " إنكاريًا " وتقدير النص عندهم هكذا " أأقيم لهم نبيًا من
وسط إخوتهم مثلك . . ؟ !
ويكون المعنى عليه : كيف أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم ؟ أى لا أفعل هذا .
بطلان هذا الرأى
وهذا
الرأى باطل ولن نذهب فى بيان بطلانه إلى أكثر من كلام التوراة نفسها .
وذلك ؛ لأنه لو كان النص كما ذكروا بهمزة استفهام إنكارى محذوفة هى فى قوة
المذكور لكان الكلام نفياً فعلاً . . ولو كان الكلام نفياً لما صح أن
يعطف عليه قوله بعد ذلك :
" ويكون أن الإنسان الذى لا يسمع لكلامى
الذى يتكلم به باسمى أنا أطالبه " فهذا المقطع إثبات قطعاً فهو مرتب على
إقامة النبى الذى وعد به المقطع الذى قبله . فدل هذا " العطف " على أن
المقطع السابق وعد خبرى ثابت لا نفى . ويترتب على ذلك بطلان القول الذاهب
إلى تقدير الاستفهام . . ؟ !
الثانى : وقد أحس اليهود ببطلان القول
بالاستفهام فاحتاطوا للأمر وقالوا لا مانع أن يكون النص خبراً ووعداً
مثبتاً ، ولكنه ليس المقصود به عيسى ابن مريم - عليه السلام - ولا محمد
بن عبد الله رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - ، بل المراد به نبى من
أنبياء إسرائيل يوشع بن نون فتى موسى ، أو صموئيل . . ؟ !
موقف النصارى :
أما
النصارى فيحملون البشارة فى النص على - عيسى عليه السلام - وينفون أن يكون
المراد بها رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - ، وقد علمنا قبلا أن
اليهود ينفون أن تكون لعيسى - عليه السلام - .
وللنصارى مغالطات
عجيبة فى ذلك إذ يقولون إن النبى الموعود به ليس من بنى إسماعيل بل من بنى
إسرائيل . ومحمد إسماعيلى فكيف يرسل الله إلى بنى إسرائيل رجلاً ليس منهم
. ؟ ! كما قالوا إن موسى أتى بمعجزات ومحمد لم يأت بمعجزات فكيف يكون
مثله . وقد رددنا على هذه الفرية فيما تقدم .
الحق الذى لا جدال فيه :
والواقع
أن كل ما ذهب إليه اليهود والنصارى باطل . باطل . ولن نذهب فى بيان
بطلانه إلى أبعد من دلالة النص المتنازع عليه نفسه . أما الحق الذى لا
جدال فيه فإن هذا النص ليس له محمل مقبول إلا البشارة برسول الإسلام - صلى
الله عليه وسلم - وإليكم البيان :
إن النص المتنازع عليه يقيد البشارة بالنبى الموعود به فيه بشرطين :
أحدهما : أنه من وسط إخوة بنى إسرائيل .
وثانيهما
: أنه مثل موسى - عليه السلام - صاحب شريعة وجهاد لأعداء الله وهذان
الشرطان لا وجود لهما لا فى يوشع بن نون ، ولا فى صموئيل كما يدعى اليهود
فى أحد قوليهم .
ولا فى عيسى عليه السلام كما يدعى النصارى .
أما
انتفاء الشرط الأول فلأن يوشع وصموئيل وعيسى من بنى إسرائيل وليسوا من وسط
إخوة بنى إسرائيل . ولو كان المراد واحداً منهم لقال فى الوعد :أقيم لهم
نبيًا منهم . . ؟ ! هذا هو منهج الوحى فى مثل هذه الأمور كما قال فى شأن
النبى - صلى الله عليه وسلم - :
( هو الذى بعث فى الأميين رسولاً
منهم . . ) (5) . وكما جاء على لسان إبراهيم وإسماعيل ( عليهما السلام )
( ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم . . . ) (6) .
وأما انتفاء الشرط الثانى ، فلأن : لا صموئيل ولا يوشع ولا عيسى ابن مريم كانوا مثل " موسى " عليه السلام .
فموسى
كان صاحب شريعة ، ويوشع وصموئيل وعيسى وجميع الرسل الذين جاءوا بعد موسى -
عليه السلام - من بنى إسرائيل لم يكن واحداً منهم صاحب شريعة ، وإنما
كانوا على شريعة - موسى عليه السلام - . وحتى عيسى ما جاء بشريعة ولكن
جاء متمماً ومعدلاً فشريعة موسى هى الأصل . إن عيسى كان مذكراً لبنى
إسرائيل ومجدداً الدعوة إلى الله على هدى من شريعة موسى عليه السلام ! !
فالمثلية بين هؤلاء - وهى أحد شرطى البشارة - وبين موسى عليه السلام لا
وجود لها . ؟ !
الشرطان متحققان فى رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم -
وبنفس القوة والوضوح اللذين انتفى الشرطان بهما عمن ذكروا من الأنبياء ثبت ذلك الشرطان لمحمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - :
فهو
من نسل إسماعيل ، وإسماعيل أخو إسحق ، الذى هو أبو يعقوب المسمى إسرائيل
. فهو من وسط إخوة بنى إسرائيل - بنو عمومتهم - وليس من إسرائيل نفسها .
وبهذا تحقق الشرط الأول من شرطى البشارة :
ومحمد - عليه الصلاة والسلام
- صاحب شريعة جليلة الشأن لها سلطانها الخاص بها - جمعت فأوعت - مثلما كان
موسى - أكبر رسل بنى إسرائيل - صاحب شريعة مستقلة كانت لها منزلتها التى
لم تضارع فيما قبل من بدء عهد الرسالات إلى مبعث عيسى عليه السلام .
وبهذا
يتحقق الشرط الثانى من شرطى البشارة وهو " المثلية " بين موسى ومحمد (
عليهما صلوات الله وسلامه ) ، فعلى القارئ أن يتأمل ثم يحكم .
- 3 -
فى
المزامير المنسوبة إلى داود عليه السلام وردت كثير من العبارات التى لا
يصح حمل معناها إلا على رسول الإسلام . ومن ذلك قول داود كما تروى
التوراة :
- أ -
" أنت أبرع جمالاً من بنى البشر . انسكبت
النعمة على شفتيك ، لذلك باركك الله إلى الأبد . تقلد سيفك على فخذك أيها
الجبار ، جلالك وبهاؤك . وبجلالك اقتحم . اركب من أجل الحق والدعة . .
بتلك المسنونة فى قلب أعداء الملك - يعنى الله - شعوب تحتك يسقطون . . من
أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك " (7) .
- ب -
اسمعى
يانيت وأميلى أذنك ، وانسى شعبك وبيت أبيك ، فيشتهى الملك حسنك ؛ لأنه هو
سيدك فاسجدى له . وبنت صور أغنى الشعوب تترضى وجهك بهدية . كلها مجد ابنة
الملك فى خدرها . منسوجة بذهب ملابسها مطرزة ، تحضر إلى الملك فى إثرها
عذارى صاحباتها مقدمات إليك يحضرن بفرح وابتهاج يدخلن إلى قصر الملك .
عوضاً عن آبائك يكون بنوك نقيمهم رؤساء فى كل الأرض اذكر اسمك فى كل دور
فدور من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد "
وقفة مع هذا الكلام
فى
المقطع الأول (أ) لا تنطبق الأوصاف التى ذكرها داود إلا على رسول الإسلام
- صلى الله عليه وسلم - . فهو الذى قاتل بسيفه فى سبيل الله وسقطت أمامه
شعوب عظيمة كالفرس والروم .
وهو الممسوح بالبركة أكثر من رفقائه الأنبياء ؛ لأنه خاتم النبيين ، ورسالته عامة خالدة : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (Cool .
ولم
يترك رسول هدى وبيانا مثلما ترك رسول الإسلام فى القرآن الحكيم ، وفى
أحاديثه وتوجيهاته ، التى بلغت مئات الآلاف ، وتعددت المصادر التى سجلتها
، وفيها من روائع البيان ، وصفاء الألفاظ ، وشرف المعانى ما ليس فى غيرها
.
أما المقطع الثانى (ب) فهو أوصاف للكعبة الشريفة . فهى التى
تترضاها الأمم بالهدايا . وهى ذات الملابس المنسوجة بالذهب والمطرزة ، وهى
التى يذكر اسمها فى كل دور فدور وتأتيها قوافل" الحجيج " رجالاً ونساءً من
كل مكان فيدخل الجميع فى " قصر الملك " ويحمدها الناس إلى الأبد ؛ لأن
الرسالة المرتبطة بها رسالة عامة : لكل شعوب الأرض الإنس والجن . بل
والملائكة . وفى مواسم الحج يأتيها القاصدون من جميع بقاع الأرض مسلمين ،
ورعايا مسلمين من بلاد ليست مسلمة .
خالدة : لم ينته العمل بها بوفاة رسولها ، كما هو الحال فيما تقدم . وإنما هى دين الله إلى الأبد الأبيد .